أمريكا على مفترق طرق- تحديات انتخابية وانعكاسات إقليمية

المؤلف: د. الخير عمر أحمد سليمان10.20.2025
أمريكا على مفترق طرق- تحديات انتخابية وانعكاسات إقليمية

مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس الأمريكي، تتجه الأنظار داخل وخارج الولايات المتحدة نحو الانتخابات الرئاسية القادمة، وذلك لأهمية الدور العالمي الذي تلعبه الولايات المتحدة، ومن الطبيعي أن تحظى المناظرة التي بثتها شبكة CNN بين الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب باهتمام إقليمي وعالمي واسع النطاق، حيث وصل عدد المشاهدين إلى أكثر من 51 مليون مشاهد، مع ذلك، يبقى هذا الرقم أقل بكثير من المناظرة الأولى بينهما في انتخابات عام 2020، التي جذبت نحو 80 مليون مشاهد.

هدفنا هنا ليس تحليل المناظرة ومخرجاتها، التي باتت معروفة للكافة، بل نسعى من خلال هذا المقال إلى إلقاء الضوء على أربع حقائق أساسية تؤكد أن أمريكا تقف اليوم على مفترق طرق هام في موسمها الانتخابي الحاسم.

انقسام مجتمعي

أول هذه المعطيات هو عمر المرشحين، حيث لم يسبق في تاريخ الولايات المتحدة أن ترشح للرئاسة شخص يبلغ من العمر 81 أو 78 عامًا، إذ كان متوسط أعمار الرؤساء السابقين عند توليهم المنصب يتراوح بين 52 و 65 عامًا. الأمر الآخر هو أن أمريكا تعيش اليوم أضعف حالاتها كقوة عظمى منذ الحرب العالمية الثانية، فهي تعاني من انقسام مجتمعي غير مسبوق، وأزمة دين وطني متفاقمة باستمرار، وأزمة سياسية تتجلى في صعود جيل من الشعبويين الذين يشككون في الدولة ومؤسساتها، ويعتقدون أن القرار السياسي والاقتصادي محتكر لمصلحة فئة معينة تعمل ضدهم.

هذان العاملان يؤثران بشكل مباشر على قدرة الولايات المتحدة على القيام بدورها كقوة عظمى في السنوات القادمة.

بين حالة الانسداد السياسي الناتجة عن وجود مرشحين متقدمين في السن، يفتقران إلى القدرة على معالجة قضايا المستقبل، وبين طموحات جيل جديد يؤمن بالحرية وتطلعات عالم يتوقع من أمريكا أن تلعب دورًا بناءً في دعم الأمن والاستقرار، تذكرت جون إل. أوسوليفان، الذي كتب مقالته الشهيرة "أمة المستقبل العظيمة" ونشرها عام 1839 في مجلة "المراجعة الديمقراطية" الأمريكية، حيث قال: "إن ولادتنا الوطنية كانت بداية تاريخ جديد، وتشكيل وتقدم نظام سياسي غير مسبوق، يفصلنا عن الماضي ويربطنا بالمستقبل فقط.. يمكننا أن نفترض بثقة أن بلدنا مُقدر له أن يكون أمة المستقبل العظيمة".

هنالك فرق شاسع بين تلك المقالة التي نُشرت في القرن التاسع عشر والتي رسمت صورة مثالية لوطن ديمقراطي يقوم على نظام سياسي متميز عن بقية أنظمة العالم، بمعيار ديمقراطيته والتزامه بحقوق الإنسان وحرص قادته على معالجة قضايا المستقبل بشكل منصف يعود بالنفع على المواطن الأمريكي والعالم أجمع، وبين نتائج المناظرة الرئاسية الأخيرة، هذا التباين الكبير يستدعي من الجميع التفكير مليًا وإعادة تقييم قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم نحو آفاق الحرية، واحترام القيم الإنسانية النبيلة، بما في ذلك احترام خيارات الشعوب الأخرى، في الوقت الذي تواجه فيه تحديات داخلية غير مسبوقة.

تحديات

أما المعطى الثاني، فالولايات المتحدة وهي على أعتاب الانتخابات العامة، تواجه سلسلة من التحديات الاقتصادية والمجتمعية والسياسية التي ستؤثر بشكل كبير، بجانب عوامل أخرى، على تحديد هوية الرئيس القادم، والحزب الذي سيسيطر على الكونجرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب)، بل سيتجاوز تأثير ذلك الداخل الأمريكي ليشمل طبيعة السياسة الخارجية المتوقعة للدولة وانعكاساتها على العالم بأكمله.

على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لا يزال التضخم مستمرًا، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء أصبح مصدر قلق للعديد من الاقتصاديين والسياسيين، نظرًا لتأثيره على الاستقرار الاجتماعي واحتمالية انتشار العنف وارتفاع معدلات الجريمة.

يتزامن هذا مع الارتفاع المطرد في حجم الدين الوطني الذي تجاوز حاليًا حاجز الـ 34 تريليون دولار. ووفقًا لموقع "إنفيستوبيديا"، (وهو موقع إعلامي مالي عالمي موثوق يقع مقره الرئيسي في نيويورك وتأسس عام 1999)، فقد بلغ إجمالي ديون الحكومة 34.83 تريليون دولار حتى أبريل 2024. وتتصدر اليابان قائمة الدول الأجنبية التي تتحمل الجزء الأكبر من الديون الأمريكية، تليها الصين والمملكة المتحدة ولوكسمبورغ وكندا.

تمتلك اليابان ما قيمته 1.15 تريليون دولار من إجمالي الدين الأمريكي كأكبر دائن، تليها الصين في المرتبة الثانية بقيمة 770.7 مليار دولار، ثم المملكة المتحدة بقيمة 710.2 مليار دولار، ولوكسمبورغ بإجمالي 384.4 مليار دولار، ثم كندا بمبلغ إجمالي قدره 338.2 مليار دولار. فقضية الديون الخارجية معقدة ومتعددة الجوانب ولها تأثيرات كبيرة على المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة، وبالتالي على سياساتها الجيوسياسية كقوة عظمى.

الواقع الاقتصادي المأزوم

هذا الواقع الاقتصادي المتأزم الذي زاد من اتساع الهوة بين الأغنياء الذين ازدادوا ثراءً والفقراء الذين ازدادوا فقرًا، لا يمكن تجاهل تأثيره على العملية الانتخابية، وعلى قدرة أي من المرشحين، بايدن أو ترامب، على قيادة دولة قادرة على تلبية احتياجات 37.9 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي لعام 2022، وهو ما يمثل 11% من إجمالي السكان، ويشكل كتلة انتخابية ذات أهمية كبيرة.

كما أن قدرة الفائز في الانتخابات القادمة على توفير الرعاية الصحية والتعليم الجيدين، وحتى تأمين السكن والاستقرار المالي، غير قابلة للتحقق دون طرح خطط وسياسات واضحة لتجاوز هذه الأزمة، وهو ما لم يظهر بوضوح في المناظرة بين المرشحين، مما يجعل التحدي ماثلًا.

التحدي السياسي

أما التحدي السياسي الذي يواجه أمريكا في موسمها الانتخابي، فهو غياب الأرضية المشتركة بين الحزبين الرئيسيين، الديمقراطي والجمهوري، حول أُسس النظام الديمقراطي وآليات إدارته.

قد يكون من المفهوم وجود اختلافات بين رؤى الحزبين لمختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتباين وجهات نظرهما حول قضايا السياسة الخارجية، فاختلاف وجهات النظر يوفر مساحة معقولة للناخب للمفاضلة بين المتنافسين، ولكن الأزمة أصبحت وجودية على مستوى الأسس التي يقوم عليها النظام الأمريكي برمته.

فقد بلغ عدد الذين صوتوا لترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2020، 74 مليون ناخب، يمثلون 47% من إجمالي الأصوات، ويرى أنصاره أن الانتخابات لم تكن نزيهة، وبالتالي الرئيس بايدن رئيس غير شرعي، على الرغم من أن عدد الذين صوتوا له قد وصل إلى 81 مليون ناخب ساهموا في وصوله إلى البيت الأبيض.

وبناءً على هذا الاعتقاد، يرى أنصار ترامب أن المؤسسات القائمة غير شرعية ولا تمثلهم، وقد قاموا بالهجوم على مقر الكونجرس في السادس من يناير 2020؛ لمنع التصديق على نتيجة الانتخابات العامة.

هذا الفكر ظل يتعاظم في أذهان مناصري الرئيس السابق حتى هذه اللحظة، ونحن على مشارف الانتخابات العامة القادمة التي ستعقد في نوفمبر من هذا العام، وهم يؤمنون بضرورة إنشاء مؤسسات بديلة ذات شرعية مختلفة لتمثيلهم.

إن الخطر الأكبر الذي يهدد النظام السياسي الأمريكي وقدرته على الحفاظ على وحدة الدولة، هو تنامي هذا الشعور العدائي تجاه المؤسسات الفيدرالية، الذي دعمه ترامب بعد مغادرته البيت الأبيض عام 2020، ولم يسعَ بأي شكل من الأشكال لتهدئة أنصاره لخلق بيئة صالحة للعمل السياسي الرشيد القائم على التداول السلمي للسلطة، والاعتراف بنتائج الانتخابات.

وقد أضاف ترامب إلى ذلك إشكالية أخرى تمثلت في تشكيكه في نزاهة القضاء، الذي يمثل أمامه الآن في قضايا مدنية وجنائية كبرى، وتصويره على أنه قضاء غير نزيه، وتم تسييسه لملاحقة الخصوم السياسيين. ووجدت هذه الاتهامات صدى لدى مناصريه، وبالتالي أصبحوا مستعدين للدخول في مواجهة مع مؤسسات الدولة بدعوى أنها لا تُمثلهم.

مشروع 2025

ثالث المعطيات هو مشروع العام 2025، الذي انبثق عن عملية تقييمية مستفيضة قامت بها مائة منظمة يمينية محافظة ذات توجهات متطرفة للغاية، برعاية وإشراف مؤسسة التراث (The Heritage Foundation). وقد خلصت هذه العملية إلى أن رئاسة دونالد ترامب السابقة لم تنجح في تغيير وجه أمريكا ليصبح أكثر محافظة وتطرفًا؛ بسبب امتلاكهم السلطة دون خطة واضحة وأفراد يتمتعون بالولاء الكافي لتنفيذها. سعى المشروع لمعالجة هذه النواقص من خلال أربعة عناصر رئيسية:

  • وضع أجندة سياسية واضحة المعالم تكون بمثابة خطة عمل.
  • توظيف موظفين يتمتعون بالولاء الكافي لتنفيذ الخطة.
  • إنشاء أكاديمية رئاسية لتدريب هؤلاء الموظفين لضمان نجاح تنفيذ الخطة.
  • وضع كتاب مفصل لأجندة محددة للغاية واجبة التنفيذ خلال الـ 180 يومًا الأولى من إدارة ترامب القادمة.

تتم حماية هذا المشروع المحافظ المتطرف من خلال قوة قضائية يقودها قضاة يمينيون محافظون، تشرف عليهم مؤسسة "فيدراليست سوسيتي" (Federalist Society)، التي تضم ما لا يقل عن مائة ألف محامٍ وقانوني. ومن بين أبرز إنجازات هذه المؤسسة هو تخرج خمسة من قضاة المحكمة العليا منها، وهم: بريت كافانو، ونيل جورساتش، وإيمي كوني باريت، وكلارنس توماس، وصامويل أليتو. وقد قام ترامب بتعيين الثلاثة الأوائل منهم خلال فترة رئاسته الأولى.

الجدير بالذكر هنا هو أن هذا المشروع يهدف إلى تغيير بنية الدولة ومؤسساتها بالكامل، مما سيكون له تداعيات خطيرة على الداخل والخارج الأمريكي، وعلى منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. تم تضمين الأفكار الكاملة لهذا المشروع في كتاب ضخم يقع في 922 صفحة بعنوان "تفويض القيادة: وعد المحافظين" (Mandate for Leadership: The Conservative Promise).

سيناريوهات

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي النتائج المترتبة على فوز أي من المرشحين برئاسة الولايات المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي؟ للإجابة على هذا السؤال، هناك سيناريوهان محتملان:

السيناريو الأول:

فوز ترامب، الذي يتقدم على بايدن في استطلاعات الرأي. في هذه الحالة، ستتاح لترامب فرصة لتطبيق خطة مشروع 2025 اليميني المتطرف بالكامل. في تقديري الشخصي، إذا حدث ذلك، فسيكون ترامب بمثابة غورباتشوف أمريكي، ومهمته ستقتصر على تفكيك الحكومة الفيدرالية وتقليل دورها بشكل كبير.

ستكون هذه خطوة متقدمة نحو تفكيك الولايات المتحدة. ليس بالضرورة أن يعني التفكيك انهيار الاتحاد الفيدرالي الذي يضم خمسين ولاية، ولكن تصاعد النزعة الاستقلالية والتمرد على النظام المركزي قد يؤدي مستقبلًا إلى التفكيك الكامل أو العودة إلى النظام الكونفدرالي كما كان في السابق.

على الصعيد الخارجي، ستنكمش أمريكا على نفسها أكثر، باستثناء جبهة الصين التي قد تشهد المزيد من المواجهات التجارية، وربما مواجهة عسكرية في مرحلة ما، مع غياب شبه تام عن منطقة الشرق الأوسط.

السيناريو الثاني:

فوز الرئيس بايدن. في هذه الحالة، وبالنظر إلى التحدي السياسي المذكور آنفًا، سيواجه صعوبة كبيرة فيما يتعلق بالاعتراف بنتائج الانتخابات، وقد يؤدي هذا الأمر إلى مواجهات عنيفة قد تتطور إلى حرب أهلية، إذا لم ترتقِ النخبة الحاكمة في أجهزة الدولة الثلاثة، وخاصة أعضاء الكونجرس من الجمهوريين، إلى مستوى المسؤولية واحترام الدستور.

في حال تم الاعتراف ببايدن رئيسًا لولاية ثانية، ستكون ولايته مشحونة بالصراعات السياسية مع المحافظين، الذين سيسعون جاهدين لتوظيف ترسانتهم القضائية لتعطيل جميع مشروعات بايدن. على الصعيد الخارجي، سينصب الاهتمام على الصين، ومحاولة حسم الحرب الأوكرانية لصالح المعسكر الغربي، على الرغم من أن الانخراط الشديد في هذه الحرب قد يحمل في طياته تهديدًا أمنيًا متزايدًا لأوروبا، إذا شعر بوتين بأي نوع من التهديد الوجودي لبلاده.

الشرق الأوسط والسباق الانتخابي

ثمة معطى رابع يتمثل في المعضلة الأمنية بالنسبة لدول الشرق الأوسط. هذه المعضلة ستظل قائمة في حال فوز أي من الطرفين، فالأولوية ستكون للصين كمنافس استراتيجي حقيقي. وبالنظر إلى ميزانية الدفاع الأمريكية لعام 2024، نجد أن جزءًا كبيرًا منها مخصص لهذا الغرض، وبالتالي فإن تنويع التحالفات الاستراتيجية لدول منطقة الشرق الأوسط يظل أمرًا ضروريًا للغاية. دول المنطقة لديها القدرة على المناورة إذا ما استخدمت ما لديها من إمكانات ووسائل ضغط.

على الرغم من أن الولايات المتحدة تنفق على الدفاع أكثر من أي دولة أخرى، فإن مكتب الميزانية التابع للكونجرس يتوقع أن ينخفض الإنفاق الدفاعي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات القادمة، من 2.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 إلى 2.5% في عام 2034.

وبالتالي، فإن الاعتماد على واشنطن من الناحية الأمنية يظل أمرًا غير مضمون في السنوات القادمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة